الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان: [الطويل] والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح، قال أبو عبيدة والزجاج: وقد يستعمل في الذم أيضًا ومنه قول الشاعر: وقال مجاهد: المراد ب الخلف هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس {ورثوا الكتاب} وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري {وُرّثوا الكتاب} بضم الواو وشد الراء، وقوله: {يأخذون عرض هذا الأدنى} إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ويعن ولا يثبت، و{الأدنى} إشارة إلى عيش الدنيا، وقوله: {ويقولون سيغفر لنا} ذم لهم باغترارهم وقولهم: {سيغفر} مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم: «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم».وقوله تعالى: {ألم يؤخذ عليهم} الآية، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل، و{الكتاب} يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى، وقوله: {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك، وقرأ جمهور الناس: {يقولوا} بياء من تحت وقرأ الجحدري: {تقولوا} بتاء من فوق وقوله: {ودرسوا} معطوف على قوله: {ألم يؤخذ} الآية بمعنى المضي، يقدر: أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، {وادارسوا} ما فيه وقال الطبري وغيره، قوله: {ودرسوا} معطوف على قوله: {ورثوا الكتاب}.قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله: {ودرسوا} يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله: {ألم} ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} وقرأ جمهور الناس: {أفلا تعقلون} بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة: {يعقلون} بالياء من أسفل. اهـ.
ومنه قيل للرديء من الكلام: خَلْف.ومنه المثل السائر: سَكَت ألْفًا ونطق خَلْفًا.فخلفٌ في الذَّم بالإسكان، وخَلَفٌ بالفتح في المدح.هذا هو المستعمل المشهور.قال صلى الله عليه وسلم: «يَحمِل هذا العلم مِن كل خَلَف عدولُه» وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر.قال حسان بن ثابت: وقال آخر: ويروى: خَضَف؛ أي رَدَم.والمقصود من الآية الذّمّ.{وَرِثُواْ الكتاب} قال المفسرون: هم اليهود، ورِثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتَوْا محارمه مع دراستهم له.فكان هذا توبيخًا لهم وتقريعًا.{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم ونهمهم.{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} وهم لا يتوبون.ودلّ على أنهم لا يتوبون.قوله تعالى: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} والعَرَض: متاع الدنيا؛ بفتح الراء.وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير.والإشارة في هذه الآية إلى الرَشا والمكاسب الخبيثة.ثم ذمّهم باغترارهم في قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا} وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصِرّون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقْلَع وندم.قلت: وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا.أسند الدارمِيّ أبو محمد: حدّثنا محمد بن المبارك حدّثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يُكْنَى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سَيَبْلَى القرآنُ في صدور أقوام كما يَبْلَى الثّوب فيتهافَت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يَلْبَسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالُهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئًا.وقيل: إن الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة؛ أي وإن يأت يهودَ يَثْرِبَ الذين كانوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم عَرَضٌ مثْلُه يأخذوه كما أخذه أسلافهم.قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فيه مسألتان.الأُولى: قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب} يريد التوراة.وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألاّ يميل الحكام بالرُّشَا إلى الباطل.قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأُخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبيّنا صلى الله عليه وسلم وكتابِ رَبِّنا، على ما تقدّم بيانه في النساء.ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.الثانية: قوله تعالى: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي قرؤوه، وهم قَرِيبُو عهد به.وقرأ أبو عبد الرحمن {وادارسوا ما فيه} فأدغم التاء في الدال.قال ابن زيد: كان يأتيهم المُحِقّ بِرشوة فيُخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له.وقال ابن عباس: {أَلاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَّ} وقد قالوا الباطل في غُفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به.وقال ابن زيد يعني في الأحكام التي يحكمون بها؛ كما ذكرنا.وقال بعض العلماء: إن معنى {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي مَحَوْه بترك العمل به والْفَهْم له؛ من قولك: درستِ الريح الآثار، إذا مَحَتْها.وخط دارس ورَبْع دارس، إذا امحى وعفا أثره.وهذا المعنى مواطىء أي موافق لقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} الآية.وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] حسب ما تقدّم بيانه في البقرة. اهـ.
|